14 - 05 - 2025

تعا اشرب شاي| مسخرة فوق النيل

تعا اشرب شاي| مسخرة فوق النيل

فى ذلك المعبد الفرعونى العتيق تعيش أسرة السيد "تاخوس" مع زوجته السيدة "يشارا" وإبنيه "سنفرو" و"بتاح" وإبنته الوحيدة "بخيتا" منذ آلاف السنين.

كانت يشارا زوجة عاقلة لا تحب أن ترهق زوجها بسفاسف الأمور، خاصة مشاكلها التى لم تكن تنتهى مع إبنها الأصغر "بتاح".

فى ذلك اليوم حين كانت السيدة تتفقد المعبد لتبحث عن إبنها "بتاح" كالعادة، طرق أذنيها صوت عم عبد الواحد حارس المعبد، يبدو أنه كان يشكو لأحدهم عن سوء أحواله المادية وكيف أنه لا يستطيع أن يطعم أبناءه نبات البطاطس الذى كان بديلا عن الأجبان التى إرتفع سعرها لأرقام فلكية يعجز عن توفيرها.

لم تصدق السيدة ما سمعته، فنبات البطاطس فى عهدهم كان الوجبة الرئيسية للأغنام والماشية!

تنهدت بأسى، فعندها داخل التابوت أطنانا من البطاطس، كانت قد وضعتها لإطعام حيواناتهم فى العالم الاخر ولكنها للأسف سمعت بعض الحكماء الذين يتوافدون إليهم من حين لآخر، يقولون أنها اصبحت من الحفريات ولا تصلح للطعام فى الوقت الحالى.

كان الرجل مهموما حزينا وهو يحكى لصاحبه معاناته مع صغاره كى يقنعهم بالإقلاع عن تعاطى البطاطس بكل أنواعها.

فجأة تذكرت السيدة أنها خرجت للبحث عن بتاح، كان الولد كثير الغياب عن المعبد، يهيم على وجهه طوال الليل للسهر مع أحفادهم من "حدثاء المصريين" فى القهاوى والأفراح ويعود مع ضوء النهار، كان هذا الأمر لا يزعج أمه يشارا كثيرا، كل ما أهمها أنه كان يتعلم منهم أمورا لا تليق وألفاظا سوقية للغاية.

أخيرا سمعت صوت صياحه، إنه عادة ما يحدث جلبة عند قدومه، كان يدندن بوقاحة:

إحنا بتوع ربنا .. وماحدش أدنا ... لمينا الكفار... وعملنا حفلة نار.............

الأم مقاطعة بغضب: أين كنت حتى الآن يا بتاح؟

بتاح بلا مبالاة: إهدى بس يا ست الكل وأنا أشرحلك.

الأم بغضب أشد: قلت لك عشرات المرات إما أن تتحدث الهيروغليفية أو تلزم الصمت، لو سمعك الكاهن وأنت تتحدث لغة العوام لجلدك بالسوط.

الإبن مازحا: بالسوط ولا بالضوء ؟ هعهعهعع

الأم بجدية: ما دمت تعرف "الصوت والضوء"، لم لا تسهر هناك بدلا من تلك السهرات الهابطة؟... على الأقل ستتعرف على إنجازات أجدادك وأبنائك القدماء؟

الإبن وهو يهرش قفاه: باخاف من صوت أحفادنا "عبد الوارث عسر" و"حمدى غيث" بالليل أثناء الإلقاء، بيقفلونى الصراحة.

الأم تنادى ولدها سنفرو فيأتى على الفور وهو ينظر إلى الأرض إحتراما لأمه.

الأم بحزم: ألم انبهك من قبل ألا تغفل عيناك عن متابعة هذا الصبى المعوج، ولا تتركه يذهب مكانا بدونك.

بتاح ساخرا: مش دا برضه إبنك "سنفرو" اللى غضبتى عليه وحبستيه يوم "الزينة" عشان ما يقفش أدام الفرعون؟ بقى حلو دلوقت!!!

الأم متلجلجة: كنت خائفة عليه، هذه نقرة وتلك نقرة.

بتاح ساخرا: نقرة ولا دحديرة هعهعهعهع

سنفرو بأدب: إسمحيلى يا أماه، بتاح لم يذهب خارج المعابد منذ أن أمرته، أنا أثق من هذا.

الأم بجنون: إذن، من جاء بهذا الغناء الرث؟

سنفرو بخجل: لقد أقام أحفادنا من "حدثاء المصريين" حفلاتهم فى معابدنا، كان هناك حفل منذ يومين فى "الكرنك" وغدا سيقيمون حفلا آخر هنا فى "فيلة".

الأم بإندهاش: لا أكاد أصدق، هل حقا إنتهكوا حرمة المعابد وأقاموا أفراحهم فيها، وبيننا وزراء وأمراء وملك!

بتاح بتلقائية: ملك ولا كتابة ؟ هعهعهعع 

جاءت الإبنة الشابة "بخيتا" من مخدعها بعد أن استيقظت على الجلبة التى أحدثها بتاح وهى تتثاءب: خيرا يا أماه؟ ما خطبكم؟

الأم بحزم: لا أريدك أن تفارقى التابوت حتى صباح بعد غد يا بخيتا، هناك أمور لا يصح أن تراها فتاة مثلك فى المعبد.

بخيتا بحزن: ماذا فعل أحفادنا يا أماه؟ إننى أتابعهم وأعلم بتطورات أزماتهم بداية من أزمة الدولار، حتى أزمة البطاطس.

الأم ملتاعة: هل حقا لديهم أزمة فى البطاطس! لقد ظننت أن عم عبدالواحد عبد فقير ولا يملك ثمن جوال من المحصول.

بخيتا بحسرة: كل حدثاء المصريين يعانون يا أمى.

الأم ملتاعة: إذن لوثوا ماء النيل ، فعاقبهم الإله؟

سنفرو بغضب: لقد فعلوا ما هو أسوأ يا أماه، لقد ردموا معظم قنواته، والآن جارى العمل على ردم ترعة تسمى "المحمودية" بالقرب من "منف" القديمة، ولم يكتفوا بذلك بل شقوا قنوات صناعية فى مدن الأغنياء و"بركا" للإستحمام ملأوها من ماء النيل العذب، ثم مستدركا: تلك الأنهار التى كان يتفاخر بها الفرعون الغريق.

أشاحت الأم بيدها وهى تتألم ثم قالت محذرة: سنفرو، لا شأن لنا بالسياسة.. و فجأة تذكرت شيئا فأضافت مستدركة: ولكننا نملك خزائن الأرض.

أطرقت بخيتا وسنفرو إلى الأرض وقد خيم عليهما الحزن، فأدركت الأم أن الأحفاد قد ضيعوا كل ما تركوه لهم، فقالت بحسرة محذرة: إياكم أن يعرف أبوكم بما دار بيننا، تعلمون كم هو صارم وملتزم، لا يحيد عن الحق مهما كلفه الأمر.

فى مساء ذلك اليوم، بدأ العمل على قدم وساق لتجهيز المعبد لإحتفال بدا غاية فى البذخ والتبذير، و فى مساء اليوم التالى، تابعت الأسرة حفل زفاف أسطورى بمزيج من الدهشة والإستهجان، فهى سابقة لم تحدث من قبل وعلى حد علمهم فإن المصرى الحديث يعانى من صعوبة المعيشة.

كان الغضب يسيطر على السيد "تاخوس"، فلازم تابوته معلنا الاحتجاج.

 أما الأم فقد أخذت تتطلع إلى مائدة أحفادها الأثرياء العامرة بحسرة، ولا يغيب عن سمعها صوت حفيدها المحروم عم عبد الواحد وهو يشكو همه.

وفى أثناء مراقبتها لوقائع الحفل علمت أنهم سيتابعون الإحتفال لأيام قادمة، فأمسكت بورقة بردى وراحت تسجل العنوان الذى سيقام فيه الإحتفال التالى حتى لا تنسى، وقد عقدت العزم أن ترسل إبنها سنفرو لجلب بعض قطع البطاطس لحفيدهم عم عبد الواحد وأولاده المناكيد من موائدهم العامرة.

كان الإحتفال سيقام فى أحد الأماكن التى تطل على نيل "طيبة" العظيم، وبالفعل ذهب سنفرو إلى حيث دلته امه ، فبهت مما رآه.

لقد وجد الأحفاد يرتدون ثياب النوم رجالا ونساء، وقد إعتلى العريس والعروس فراشا وثيرا بينما أحاط بهم الأصدقاء، كانت غالبية السيدات يرتدين ملابس عارية و قصيرة للغاية، أطلق عليها البعض إسما غريباآ  "بيبى دول"، أما المحتشمات منهن فقد إرتدين فوقه روبا شفافا من الشيفون.

قارب الليل على الإنتهاء ولم يعد "سنفرو"، كاد القلق يفتك بالأم الطيبة وهى لا تدرى ماذا تفعل؟ وأخيرا قررت إيقاظ زوجها ليعود بإبنهما رغم صعوبة هذا الأمر على نفسها.

وبالفعل أيقظت السيد تاخوس من نومه وقصت عليه ما حدث، فخرج غاضبا متوعدا ولكنه تأخر و لم يأت هو الاخر.

ظلت السيدة يشارا فى شرفة المعبد تترقب وصولهما بفارغ الصبر، وأخيرا سمعت صوتا غريبا يشبه صوت زوجها السيد تاخوس، كان يدندن وهو يترنح: كدة تلبس ضيق؟ لأ لأ.. وأنا ركبى تزيأ؟.. لأ لأ.. طب ينفع كدة؟.. لأ لأ ....الخ

وقفت على أطراف أناملها لترى ماذا يحدث بعيدا، ثم تجمدت من الرعب، لقد كان صوت زوجها بالفعل، نعم هو ولا أحد سواه الذى ينشد هذا الكلام الردئ.

إقتربت منهما وهى لا تستطيع كبح جماح غضبها: أين كنت حتى هذه الساعة يا سيدى؟

السيد تاخوس بإستهتار: انتى حتفصلينى ليه؟ أنا حر .

الزوجة بلوعة: ماذا دهاك يا سيدى ؟ منذ متى وأنت تتحدث بلهجة العوام؟

الزوج مازحا: العوام عليكو ورحمة الله وبركاته هعهعهعع.

سنفرو مستنكرا: كيف تخاطب أمى بهذه اللهجة يا أبتى؟

الأب ساخرا: باقولك إيه ياض، خليك فى كوزك لما نعوزك .

سنفرو هامسا: مهما كان دى واحدة ست.

الأب ساخرا: ست !! أنا مش شايف أيتها ست!!! أمك دى ست أشهر، كانت تيجى تشوف الستات اللى على حق، يا حسرة، اللى عمرها ما نفخت ولا شفطت ولا لبستلى غير فستان عباد الشمس، هو عباد الشمس مال من شوية؟

الإبن وهو لا يستطيع أن يتمالك نفسه: لاحظ إن كلامك جارح ودى أمى وأنا ماسمحلكش.

الأب يهوى بكفه على وجه إبنه فيطرحه أرضا، لتسقط الأم بجواره قائلة وهى تنتحب: سامحنى يابنى، جدر البطاطس هو السبب يا ضنايا. 

يدرك الأب بشاعة ما فعله فينحنى معتذرا وهو يقول: سامحنى أيها الإله، أنا لم ألوث ماء النيل، أنا لم أغش فى الميزان، أنا لم أقتنص طيورا من البرارى، أنا لم احرم جائعا، أنا لم.. يتلجلج قليلا وهو ينظر إلى زوجته من طرف خفى ويتمتم بينه و بين نفسه: سامحنى يا إلهى، ثم يستجمع شجاعته قائلا: أنا لم مممم.. أنا لم مممم.. لم ترق لى نساء سهرة الليلة البتة.. سامحنى يارب والنبى .
 --------------------------

بقلم: أماني قاسم

مقالات اخرى للكاتب

جاء فى مستوى الطالب الضعيف